فصل: مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ:

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا يَنْقُبَ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ (وَقَالَا: يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ.
قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا خِلَافَ.
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ فَإِذَا أُشْكِلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلْوِ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ).
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا، وَلَا يَنْقُبُ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيْ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ) وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ جِذْعًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ سُفْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ فِي سُكْنَاهُ الْعُلْوَ (وَقَالَا: يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ) أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ جِذْعًا أَوْ يَشْرَعَ كَنِيفًا.
وَالْكَوَّةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُقَالُ وَتَدَ وَتَدًا يَتِدُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَهُ (قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقول أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ (فَلَا خِلَافَ) بَيْنَهُمْ (وَقِيلَ) بَلْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَهُوَ فِي مَحَلِّ وُقُوعِ الشَّكِّ، فَمَا لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ضَرَرِهِ كَوَضْعِ مِسْمَارٍ صَغِيرٍ أَوْ وَسَطٍ يَجُوزُ اتِّفَاقًا، وَمَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ كَفَتْحِ الْبَابِ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ اتِّفَاقًا وَمَا يَشُكُّ فِي التَّضَرُّرِ بِهِ كَدَقِّ الْوَتَدِ فِي الْجِدَارِ وَالسَّقْفِ فَعِنْدَهُمَا لَا يُمْنَعُ، لِأَنَّ (الْأَصْلَ) فِيهِ (الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْحَظْرُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ) لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ؛ كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ، وَلَوْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ لَا يَجُوزُ، وَلِلشَّرِيكِ حَقُّ فَسْخِهِ (وَعِنْدَهُ الْأَصْلُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ) وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ هَدْمِهِ اتِّفَاقًا، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ تَصَرُّفَهُ بِهِ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَمُنِعَ الرَّاهِنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ صَاحِبُ الْعُلْوِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا: إذَا أُشْكِلَ تَصَرُّفُ صَاحِبِ الْعُلْوِ وَهَلْ يَضُرُّ بِالسُّفْلِ أَوَّلًا لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا أُشْكِلَ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِذَا لَمْ يَضُرَّ يَمْلِكُهُ.
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ: لَوْ حَفَرَ صَاحِبُ السُّفْلِ فِي سَاحَتِهِ بِئْرًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْوِ، وَعِنْدَهُمَا الْحُكْمُ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ، وَعَلِمْت أَنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ هَدْمُهُ، فَلَوْ هَدَمَهُ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ وَهُوَ قَرَارُ الْعُلْوِ، كَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ وَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ، وَهَذَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ، كُلُّ مَنْ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَعَ شَرِيكِهِ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّهُ لَهُ طَرِيقٌ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ كَنَهْرٍ بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ كَرْيِهِ وَكَرَى الْآخَرُ، أَوْ سَفِينَةٍ تَتَخَوَّفُ الْغَرَقَ أَوْ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ طَاحُونَةٍ فَأَصْلَحَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ جَنَى فَفَدَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّ الْآخَرَ يُجْبَرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبَرُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا كَعُلْوٍ لِرَجُلٍ وَسُفْلٍ لِآخَرَ وَسَقَطَ السُّفْلُ فَبَنَاهُ الْآخَرُ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ فَكَانَ فِي بِنَائِهِ إيَّاهُ مُضْطَرًّا لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ، وَإِذَا بَنَاهُ وَبَنَى عَلَيْهِ عُلْوَهُ لَهُ مُنِعَ صَاحِبُ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالسُّكْنَى حَتَّى يُؤَدِّيَ قِيمَتَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْقِيمَةَ هَلْ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْبِنَاءِ أَوْ وَقْتَ الرُّجُوعِ، وَالصَّحِيحُ وَقْتَ الْبِنَاءِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الدَّارِ وَالْبَيْتِ وَالطَّاحُونَةِ وَالْحَمَّامِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ قِسْمَةُ السَّاحَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَائِطِ وَعِمَارَتِهِ قَالَ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ، وَهَذَا عِنْدِي فِي غَايَةِ الْحُسْنِ إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ.
وَيَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لَوْ عَلَا بِنَاءُ السُّفْلِ عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ السَّاحَةُ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ ذَلِكَ فِيهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ إذَا بَنَى لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا، وَكَذَا إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِبِنَائِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا.
وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: دَارٌ لِجَارَيْنِ سَطْحُ إحْدَاهُمَا أَعْلَى وَمَسِيلُ مَاءِ الْعُلْيَا عَلَى الْأُخْرَى فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَرْفَعَ سَطْحَهُ أَوْ يَبْنِي عَلَيْهِ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُ بِتَسْيِيلِ مَائِهِ إلَى طَرَفِ الْمِيزَابِ.
وَإِذَا انْهَدَمَ السُّفْلُ أَوْ هَدَمَهُ الْمَالِكُ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْعِمَارَةَ لِأَجْلِ إسَالَةِ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْنِي هُوَ وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ انْتَهَى.
فَرَّقَ بَيْنَ حَقِّ التَّعَلِّي وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ حَيْثُ لَوْ هُدِمَ فِي الْأَوَّلِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ، وَلَوْ هُدِمَ فِي الثَّانِي لَا يُجْبَرُ.
وَفِي الْحَائِطِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَوْ كَانَ لَهُمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ فَبَنَى أَحَدُهُمَا لِلْبَانِي أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى الْحَائِطِ حَتَّى يُعْطِيَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا.
وَفِي الْأَقْضِيَةِ: حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ أَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَهُ وَأَبَى الشَّرِيكُ؛ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَخَافُ سُقُوطَهُ لَا يُجْبَرُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَخَافُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ يُجْبَرُ، وَإِنْ هَدَمَاهُ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ وَأَبَى الْآخَرُ إنْ كَانَ أُسُّ الْحَائِطِ عَرِيضًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يُجْبَرُ الشَّرِيكُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ يُجْبَرُ كَذَا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى: وَتَفْسِيرُ الْجَبْرِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْهُ الشَّرِيكُ وَأَنْفَقَ عَلَى الْعِمَارَةِ رَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقَ إنْ كَانَ الْحَائِطُ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، وَفِي شَهَادَاتِ فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ: لَوْ هَدَمَاهُ وَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ، وَلَوْ انْهَدَمَ لَا يُجْبَرُ وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ نِصْفَ مَا أَنْفَقَ فِيهِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ بِلَا قَضَاءٍ فَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ انْتَهَى.
فَلَوْ حُمِلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِلَا قَضَاءٍ وَقول الْخَصَّافِ مَعَ قول ابْنِ الْفَضْلِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ الظَّاهِرِيُّ.
فَلْيَكُنْ هُوَ الْمَحْمَلَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا فِي الْبِنَاءِ كَانَ لَهُ تَضْمِينُ مَا صُرِفَ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا فِي تَرْكِ مُرَاجَعَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الشَّرِيكِ وَهُوَ الْقَاضِي فَيَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ صَحِيحًا فَهَدَمَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْهَادِمُ عَلَى الْبِنَاءِ إنْ أَرَادَهُ الْآخَرُ كَمَا لَوْ هَدَمَاهُ وَإِنْ هَدَمَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ.
وَفِي كِتَابِ الْحِيطَانِ: رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ دَارِهِ وَلِأَهْلِ السِّكَّةِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يُخَرِّبُ السِّكَّةَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُمْنَعُ، فَلَوْ هَدَمَ مَعَ هَذَا وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْبِنَاءِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ، قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ.
وَفِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ هَدَمَ دَارِهِ فَانْهَدَمَ دَارُ جَارِهِ لَا يَضْمَنُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ إذْ هُوَ لِأَهْلِهَا خُصُوصًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَهْلِ الْأُولَى فِيمَا بِيعَ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ.
قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ جِدَارِهِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ.
وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا) بَابًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِغَةٌ أُخْرَى مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ) يَعْنِي الْمُنْشَعِبَةَ (فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى) إذَا كَانَ لَهُ جِدَارٌ فِي الزَّائِغَةِ الْمُنْشَعِبَةِ أَنْ يَفْتَحَ فِي جِدَارِهِ ذَلِكَ بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْمُنْشَعِبَةِ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا: وَاَلَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى هُوَ صَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي فِي رُكْنِ الزَّائِغَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى فِي الْمُرُورِ فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى بَلْ هُوَ لِأَهْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَلِذَا لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي الْقُصْوَى لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأُولَى شُفْعَةٌ فِيهَا، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُصْوَى فَإِنَّ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي الْأُولَى لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ فِيهَا، وَ (بِخِلَافِ النَّافِذَةِ فَإِنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ) وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ.
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ بَلْ مِنْ الْمُرُورِ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ بَعْضِ جِدَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ كُلَّهُ فَكَذَا لَهُ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَهُ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ بِنَصِّ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُ إذْ لَا يُمْكِنُ مُرَاقَبَتُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي الْخُرُوجِ فَيَخْرُجُ، وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي بَعْدَ تَرْكِيبِ الْبَابِ وَطُولِ الزَّمَانِ حَقًّا فِي الْمُرُورِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِتَرْكِيبِ الْبَابِ فَيَكُونُ بِتَرْكِيبِ الْبَابِ مُمَهِّدٌ لِنَفْسِهِ دَعْوَى حَقِّ الْمُرُورِ وَيَكُونُ الْقول قولهُ لِلظَّاهِرِ الَّذِي مَعَهُ وَهُوَ فَتْحُ الْبَابِ (وَلَوْ كَانَتْ) الْمُنْشَعِبَةُ (مُسْتَدِيرَةً فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا لِأَنَّ لِكُلِّ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ) غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهَا اعْوِجَاجًا (وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا) وَهَذِهِ صُورَتُهَا:
وَفِي الْحِيطَانِ زُقَاقٌ غَيْرُ نَافِذٍ أَرَادَ إنْسَانٌ: يَعْنِي مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّخِذَ طِينًا إنْ تَرَكَ مِنْ الطَّرِيقِ قَدْرَ الْمَمَرِّ لِلنَّاسِ وَيَرْفَعَهُ سَرِيعًا وَيَفْعَلَ فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ آرِيًّا أَوْ دُكَّانًا وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ فِي عُرْفِنَا مِصْطَبَةً، وَلَوْ اسْتَأْذَنَ رَجُلًا فِي وَضْعِ جُذُوعٍ عَلَى حَائِطِهِ أَوْ حَفْرِ سِرْدَابٍ تَحْتَ دَارِهِ فَفَعَلَ ثُمَّ بَاعَ الْآذِنُ دَارِهِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِرَفْعِهَا إلَّا إذَا شَرَطَ بَقَاءَهَا عِنْدَ الْبَيْعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَصَبَ أَعْمِدَةً مُلَاصِقَةً لِجِدَارِ الرَّجُلِ مُقَابِلَةً لِبَابِهِ وَنَصَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى وَجْهِ دَارِهِ سَقِيفَةً لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِإِزَالَتِهَا إلَّا إذَا شَرَطَهَا، وَلَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ حَائِطًا وَوَجْهُهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَيِّنَ حَائِطَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ أَوْ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَوَقَعَ نَقْضُهُ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ لِيَبُلَّ الطِّينَ وَغَيْرَهُ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ لَهُ مَجْرَى مَاءٍ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ حَفْرَهُ وَإِصْلَاحَهُ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ يُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ يَدْخُلُ وَيُصْلِحُ وَيَفْعَلُ بِمَالِهِ أَوْ تَفْعَلُ بِمَالِك، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَفِي وَقْفِ النَّوَازِلِ: دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ قَوْمٍ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَرْبِطُوا الدَّابَّةَ فِيهَا وَأَنْ يَضَعُوا الْخَشَبَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ، وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا بِحَيْثُ لَا تَضِيقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ لِمُرُورِهِمْ وَلَوْ عَطِبَ بِهَا أَحَدٌ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ حَفَرَ الْأَرْضَ يُؤْمَرُ أَنْ يُسَوِّيَهَا فَإِنْ نَقَصَ الْحَفْرُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ قَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْحَفْرِ.
وَفِي أَوَّلِ قِسْمَةِ الْأَصْلِ قُبَيْلَ بَابِ قِسْمَةِ الدَّارِ: رَجُلٌ أَصَابَ سَاحَةً فِي الْقِسْمَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيَرْفَعَ بِنَاءَهَا وَأَرَادَ الْآخَرُ مَنْعَهُ وَقَالَ تَسُدُّ عَلَيَّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا حَمَّامًا أَوْ تَنُّورًا، وَإِنْ كَفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلْوِ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ مَنْعُهُ، وَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ مَا يَسْتُرُ مَهَبَّهُ.
وَلَوْ اتَّخَذَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ كِرْبَاسًا أَوْ بَالُوعَةً فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ وَطَلَبَ جَارُهُ مِنْهُ تَحْوِيلَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ.
هَذَا كُلُّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَجَوَابُ الرِّوَايَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ مِنْ بِئْرٍ حَفَرَهَا جَارُهُ فِي دَارِهِ فَقَالَ احْفِرْ فِي دَارِك بِقُرْبِ تِلْكَ الْبِئْرِ بَالُوعَةً فَفَعَلَ، فَسُجِّسَتْ الْبِئْرُ فَكَبَسَهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يُفْتِهِ بِمَنْعِ الْحَافِرِ بَلْ هَدَاهُ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ.
وَفِي مُضَارَبَةِ النَّوَازِلِ: لَوْ اتَّخَذَ دَارِهِ حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ وَالْجِيرَانُ يَتَأَذَّوْنَ مِنْ نَتِنِ السِّرْقِينِ وَلَا يَأْمَنُونَ عَلَى الرُّعَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَلَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ.
قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ نَصِرْ بْنِ يَحْيَى أَنَّ لِلْقَاضِي مَنْعَ الْجَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ تَمَسُّكَهُمْ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَالْوَجْهُ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبِنَاءِ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَوَاءِ مِلْكِ صَاحِبِ السَّاحَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَصَاحِبُ السَّاحَةِ إذَا سَدَّ الْهَوَاءَ بِالْبِنَاءِ فَإِنَّمَا مَنَعَهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مِلْكًا وَلَا مَنْفَعَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ شَجَرَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا جَارُهُ فَأَرَادَ قَطْعَهَا لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ الْجَارُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةً فِي مَسْأَلَةٍ لَا رِوَايَةً لَهَا فِي الْكُتُبِ، وَصُورَتُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَحَاصِلُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ بَيْتَانِ لِرَجُلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْفَعَ الْبِنَاءَ وَيَجْعَلَهُ ذَا سَقْفَيْنِ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: إنْ كَانَا فِي الْقَدِيمِ بِسَقْفٍ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ بِسَقْفَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، قَالَ: وَحَدُّ الْقَدِيمِ أَنْ لَا تُحْفَظَ أَقْرَانُهُ وَرَاءَ هَذَا الْوَقْتِ كَيْفَ كَانَ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: فَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَبَيِّنَةُ الْقَدِيمِ أَوْلَى.
قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ السِّكَّةِ فِي هَذَا.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْمَنْعُ عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ الْآخَرِ يَجْعَلُ بَيْتَهُ ذَا سَقْفَيْنِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَوَاءِ مِلْكِ نَفْسِهِ انْتَهَى.
وَعَلَى تَقْدِيرِ الْفَرْقِ فَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبَيْتَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الضَّوْءِ وَالضَّوْءُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ يَمْنَعُهُ عَنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَذَا مِنْ الْحَوَائِجِ الزَّائِدَةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَالتَّعَازِيرِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِ مُوَاظَبَةِ طَبْخٍ يَنْتَشِرُ بِهِ دُخَانٌ قَدْ يَنْحَبِسُ فِي خُصُوصِ أَمَاكِنَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانٌ لَا يَطْبُخُونَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِيهِمْ مَرِيضٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَكَمَا أَرَيْنَاك مِنْ التَّضَرُّرِ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْقَاطِعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خُصُوصٍ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى هَدْمِ بَيْتِ الْجَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ الْفَاحِشِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِدُورٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا تَنُّورًا لِلْخُبْزِ الدَّائِمِ أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ أَوْ مِدَقَّةً لِلْقَصَّارِينَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانُهُ ضَرَرًا فَاحِشًا.
قِيلَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيُوهِنُهَا وَدَوَرَانُ الرَّحَى مِنْ ذَلِكَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَفْعَلَ صَاحِبُ الْمِلْكِ مَا بَدَا لَهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ، لَكِنْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنِ فِيمَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَهُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْهَدْمِ وَمَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ سَبَبٌ لَهُ أَوْ يَخْرُجُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَسَدِّ الضَّوْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ وَاخْتَارُوا الْفَتْوَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا التَّوَسُّعُ إلَى مَنْعِ كُلِّ ضَرَرٍ مَا فَيَسُدُّ بَابَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ فِي فَتَاوَاهُ: حُجْرَةٌ سَطْحُهَا وَسَطْحُ جَارِهِ مُتَسَاوِيَانِ فَأَخَذَ جَارُهُ حَتَّى يَتَّخِذَ حَائِطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصُّعُودِ حَتَّى يَتَّخِذَ سُتْرَةً، إنْ كَانَ إذَا صَعِدَ يَقَعُ بَصَرُهُ فِي دَارِ جَارِهِ لَهُ الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ لَكِنْ يَقَعُ إذَا كَانُوا عَلَى السَّطْحِ لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ.
قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ:
وَعَلَى قِيَاسِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُمْنَعَ صَاحِبُ السَّاحَةِ مِنْ أَنْ يَفْتَحَ صَاحِبُ الْعُلْوِ كَوَّةً يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ لَيْسَ لِلْجَارِ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ الصُّعُودِ وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ يَقَعُ فِي دَارِ جَارِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ حَقَّ مَنْعِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ عَنْ فَتْحِ الْكَوَّةِ فِي عُلْوِهِ مَعَ أَنَّ بَصَرَهُ يَقَعُ فِي السَّاحَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قولهِ يَأْخُذُ جَارُهُ بِبِنَاءِ السُّتْرَةِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي بِنَائِهَا لَا أَنْ يَسْتَقِلَّ هُوَ بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ فِي كِتَابِ الْحِيطَانِ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَسَمَاهَا وَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِي حَاجِزًا بَيْنَنَا لَيْسَ عَلَى الْآخَرِ إجَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤْذِي الْآخَرَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِبِنَائِهِ يَتَخَارَجَانِ نَفَقَتَهُ بِقَدْرِ حِصَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي لِلْمَصْلَحَةِ.
وَنَظِيرُهَا فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ: رَجُلٌ فِي دَارِهِ شَجَرَةُ فِرْصَادٍ، فَإِذَا ارْتَقَاهَا يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْجَارِ يَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ إذَا رَآهُ.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَعَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ فَتْحِ الْكَوَّةِ لَيْسَ لِلْجَارِ وِلَايَةُ الْمُرَافَعَةِ وَلَا لِلْقَاضِي الْمَنْعُ انْتَهَى.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي وَاقِعَاتِهِ حَيْثُ قَالَ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرْتَقِيَ يُخْبِرُهُمْ وَقْتَ الِارْتِقَاءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يَسْتُرُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارِ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ) وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَنُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّعْوَى مِقْدَارًا مُعَيَّنًا كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ لِتَصِحَّ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى بِهِ.
وَنُقِلَ عَنْ وَالِدِ ظَهِيرِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَقول: الصُّلْحُ عَنْ الدَّعْوَى إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا يَصِحُّ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ إذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى.
قَالَ: وَهَذَا يُشْكَلُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ دَفَعَتْهُ إلَيْهِ صَحَّ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الصُّلْحَ يَتَحَقَّقُ لِدَفْعِ الشَّغَبِ وَالْخِصَامِ صَحَّتْ الدَّعْوَى أَوْ لَمْ تَصِحَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ) يَعْنِي وَهُوَ الْمَانِعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتِ كَذَا فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ إذْ هُوَ يَدَّعِي الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهَا، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ عَنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عِنْدَهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتٍ) يَعْنِي ذَكَرَ وَقْتًا عَيَّنَهُ كَقولهِ مُنْذُ شَهْرٍ وَسَلَّمَهَا إلَيَّ فَمَلَكْتهَا وَهِيَ الْآنَ فِي يَدِهِ وَأُطَالِبُهُ بِدَفْعِهَا إلَيَّ فَطَالَبَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ فَقَالَ لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْهِبَةِ بَلْ عَلَى الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ ظَفِرَ بِهَا فَحَبَسَهَا عَنِّي فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَشَهِدُوا وَأَرَّخُوا وَقْتًا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ (لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ) بَيْنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الدَّعْوَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي تَارِيخٍ بَعْدَ تَارِيخِ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ قَبْلَ الْهِبَةِ وَبَيْنَ نَفْسِ أَجْزَاءِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ بِمُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ، وَقولهُ كَأَنَّهُ قَالَ وُهِبَ لِي هَذَا الشَّيْءُ وَكَانَ مِلْكِي بِالشِّرَاءِ قَبْلُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَكَانَ مُنَاقِضًا (وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ) الَّذِي وَفَّقَهُ (وَلَوْ ادَّعَى الْهِبَةَ) يَعْنِي وَأَرَّخَ فَطُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ (فَقَامَتْ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا) تَوْفِيقًا.
(وَلَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ نُسَخَ الْأَصْلِ (لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ مِنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُ الْوَاهِبِ عِنْدَهَا) أَيْ عِنْدَ الْهِبَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَرِّخْ الشِّرَاءَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ تَارِيخًا بَعْدَ الْهِبَةِ لِإِمْكَانِ الْحَمْلِ عَلَى مَا يَنْتَفِي بِهِ التَّنَاقُضُ، وَهَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَى إذَا أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ وَإِنْ لَمْ يُوَفِّقْ الْمُدَّعِي.
وَشَاهِدُهُ مَا ذُكِرَ فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِيهِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَلَمْ تُزَكَّ أَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَارُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ قَبِلَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ وَلَا يَكُونُ دَعْوَاهُ الْإِرْثَ تَنَاقُضًا، وَلَوْ ادَّعَى الْإِرْثَ مِنْ الْأَبِ أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَا يُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ فِي الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الثَّانِي.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إذَا أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ تَصِحُّ الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمُدَّعِي التَّوْفِيقَ.
وَفِي دَعْوَى الْمَبْسُوطِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي، فَكَانَ التَّوْفِيقُ مِنْ الْمُدَّعِي شَرْطًا فِي رِوَايَةٍ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي أُخْرَى.
وَفِي الْمُحِيطِ: قِيلَ مَا قَالُوا يُوَفِّقُ بِغَيْرِ دَعْوَى الْمُدَّعِي قِيَاسٌ، وَمَا قَالُوا لَا يُوَفِّقُ بِدُونِ دَعْوَاهُ اسْتِحْسَانٌ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي شِرَاءَ مَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ تَنْفَسِخُ بِالتَّجَاحُدِ إلَّا النِّكَاحُ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْفَسْخَ يَتَحَقَّقُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ يَجْحَدُهُ، وَحِينَ أَقْدَمَ الْآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَانْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِتَرَاضِيهِمَا، فَإِذَا اشْتَرَى هُوَ ذَلِكَ فَقَدْ اشْتَرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَهُ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ، إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ الْفَسْخِ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا وَمَا يُضَاهِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِع فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِـ) وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا (أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِالْجَحْدِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا) مَعًا حَيْثُ يَنْقَسِمُ قَطْعًا (فَإِنْ عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ تَمَّ الْفَسْخُ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسْخُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ إذَا عَزَمَ بِقَلْبِهِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ لَا يَنْفَسِخُ.
الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَزْمُ الْمُؤَكَّدُ بِفِعْلٍ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ إمْسَاكِهَا أَوْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ، فَإِنَّ إمْسَاكَهَا لَا يَحِلُّ بِلَا فَسْخٍ فَكَانَ الْفَسْخُ ثَابِتًا بِهِ دَلَالَةً كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَجَّرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ يَوْمًا بِكَذَا لِتَرْكَبَهَا إلَى مَكَانِ كَذَا فَأَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ لِيَرْكَبَهَا كَانَ ذَلِكَ قَبُولًا دَلَالَةً، لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالِاسْتِعْمَالَ لَا يَحِلُّ بِلَا قَبُولٍ.
وَفِي الْمُحِيطِ تَفْسِيرُ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَقِيلَ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ.
وَبَنَى فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَلَيْهِ فَرْعًا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ: اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ فَجَحَدَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي الْبَيْعَ فَخَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ إلَى الْقَاضِي وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَعَزَمَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَاحْتَجَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِدَعْوَاهُ الْبَيْعَ عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ عَزَمَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ تَحْلِيفِ الثَّانِي يَرُدُّهُ، أَوْ قَبْلَهُ فَلَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ وَحَلَفَ وَعَزَمَتْ الزَّوْجَةُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي الْتِزَامُ أَنَّ الْفَسْخَ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ وَهُوَ قولهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَيْعِ وَهُوَ التَّرَاضِي، وَسَنَذْكُرُ نَظَرَ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَدَافُعِ الْوَجْهَيْنِ قَرِيبًا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ أَيْضًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ، وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُصَدَّقُ وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ.
وَالزَّيْفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَقَرَّ) هُنَا مَسَائِلُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ وَمَسَائِلُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، أَمَّا مَسَائِلُ الْقَبْضِ مَا إذَا أَقَرَّ (أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى وَهُوَ أَيْضًا الْقَبْضُ) يَعْنِي أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ مَدْيُونِهِ بِدَيْنِ قَرْضٍ اقْتَرَضَهُ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ بَدَلِ إجَارَةٍ أَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ قَالَ بَعْدُ نَعَمْ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ فِي الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِمَّا لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ وَجَدْتهَا زُيُوفًا فَالْقول قولهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ قولهُ صِدْقٌ يُفِيدُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ.
فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ: لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ إجَارَةٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ لَا إنْ فَصَلَ.
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِ تِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الِالْتِزَامِ بِالتِّجَارَةِ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِ.
وَقِيلَ يُصَدَّقُ هُنَا إذَا وَصَلَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِي كَلَامِهِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا تَصِيرُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ مُسْتَحَقَّةً، وَتَأْتِي الْحُجَجُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إذَا فَصَلَ لَا يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ الْعَشَرَةَ فَهُمْ الْجِيَادُ.
وَقولهُ هِيَ زُيُوفٌ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ.
قُلْنَا: مَسْأَلَتُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَقَبْضُ الدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ بَلْ يَقَعُ عَلَى الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ، فَإِذَا قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ كَانَ حَاصِلُهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِقَبْضِ عِدَّةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ مُنْكِرًا أَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ أَعْنِي الْجِيَادَ، فَيُصَدَّقُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ الْآخَرُ يُكَذِّبُهُ وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَعَمَّ يُصَدَّقُ عَلَى كُلِّ أَخَصَّ، فَإِذَا نَفَى أَنَّهُ بَعْدَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَأَنَّهُ مِنْ صَدَقَاتِهِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَ رُجُوعًا.
وَأَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى مَالَهُ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ وَالنَّبَهْرَجَةَ، لِأَنَّهُ فِي هَذَا مُقِرٌّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا فِي الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِيمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ حَقَّهُ الثَّمَنُ، وَكَذَا بَدَلُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْجِيَادُ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ لَا مَوْصُولًا وَلَا مَفْصُولًا، وَفِيمَا بَقِيَ يُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا.
وَالْفَرْقُ أَنَّ قولهُ قَبَضْت مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ حَقِّي إقْرَارٌ بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْجَوْدَةَ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً.
أَمَّا إذَا قَالَ قَبَضْت عَشَرَةً جِيَادًا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَدْرِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ إلَّا دِينَارًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.
فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ الْجَوْدَةِ وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ الْإِقْرَارِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَبَعٌ لِلدَّرَاهِمِ وَصِفَةٌ لَهَا، وَاسْتِثْنَاءُ التَّبَعِ مَوْصُولًا لَا يَصِحُّ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.
قُلْنَا: إنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ اسْمِ الدَّارِ تَبَعًا فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مَوْصُولًا.
وَأَمَّا الْجَوْدَةُ فَدَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ مَقْصُودًا كَالْوَزْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا عَلَيْهِ، وَكَمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْوَزْنِ عَلَيْهِ الْجَوْدَةُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قولهِ مَا لِي عَلَيْهِ وَحَقِّي عَلَيْهِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مَوْصُولًا انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ: فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ.
وَعِنْدِي أَنَّ التَّأَمُّلَ يَشُدُّهُ لَا يَرُدُّهُ؛ وَكَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ تَبَعِيَّةُ الْجَوْدَةِ لِمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّهَا تَبَعٌ وَصِفَةٌ لِلدَّرَاهِمِ وَالصِّفَةُ أَبَدًا تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ.
وَهَذَا سَهْوٌ عَنْ قولهِ دَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ مَقْصُودًا.
فَحَاصِلُ رَدِّهِ عَلَى السَّائِلِ أَنَّ مَا يَكُونُ تَبَعًا فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ بِاللَّفْظِ وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْ اللَّفْظِ كَقَصْدِ الْبَاقِي سَوَاءٌ كَانَ تَبَعًا فِي الْوُجُودِ لَهُ أَوْ أَصْلًا مِثْلُهُ.
وَإِنَّمَا كَانَتْ السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ غِشَّهَا غَالِبٌ، وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ بِاعْتِبَارِ الْفِضَّةِ وَالنِّسْبَةِ إلَى الْغَالِبِ مُتَعَيَّنٌ.
فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ فَلَيْسَتْ دَرَاهِمَ إلَّا مَجَازًا، وَلِذَا قِيلَ هُوَ مُعَرَّبُ سه طَاقه: يَعْنِي ثَلَاثَ طَاقَاتٍ الطَّاقُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ فِضَّةٌ، وَالْأَوْسَطُ نُحَاسٌ، وَهِيَ شِبْهُ الْمُمَوَّهِ.
وَتَعَقَّبَ فِي النِّهَايَةِ إطْلَاقَ قولهِ فِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ بَلْ ذَاكَ إذَا قَالَ مَفْصُولًا، أَمَّا فِي الْمَوْصُولِ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي إقْرَارِ الْمَبْسُوطِ: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِمَّا لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا سَكَتَ هُوَ رَصَاصٌ لَمْ يُصَدَّقْ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّصَاصَ حَقِيقَةً، وَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا فَالْقول قولهُ لِأَنَّ الرَّصَاصَ مِنْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مَعْنًى فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِظَاهِرِ كَلَامِهِ إلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا فَفِي السَّتُّوقَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الرَّصَاصَ أَبْعَدُ مِنْهَا إلَى الدَّرَاهِمِ.
وَذَكَرَ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَامِعِهِ مُصَرِّحًا فَقَالَ: فَأَمَّا إذَا قَالَ وَجَدْتهَا سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَ مَوْصُولًا، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْقول قول الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ أَنَّهَا كَانَتْ جِيَادًا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُحَلِّفُهُ إذَا اتَّهَمْته.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالثَّانِي دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ خَصْمِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرَيْت وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ، وَأَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَتَفَرَّدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ) أَوْ قَالَ هِيَ لَك أَوْ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ فَقَدْ رُدَّ إقْرَارُهُ، فَلَوْ عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ وَادَّعَى الْأَلْفَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، لَا إنْ عَادَ الْمُقِرُّ إلَى الْإِقْرَارِ بِهَا بَعْدَ رَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَصَدَّقَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ سَيِّدُ الْعَبْدِ بِنَسَبِهِ لِإِنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ حَتَّى كَانَ لِلرَّادِّ أَنْ يَعُودَ وَيَدَّعِيَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِالرَّدِّ بَقِيَ مُقِرًّا بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ (وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقول اشْتَرَيْت مِنِّي وَأَنْكَرَ، لَهُ أَنْ) يَعُودَ فَـ (يُصَدِّقَهُ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ) فَإِنْكَارُهُ إنْ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِانْفِسَاخُ، وَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا بَعْدَ إنْكَارِهِ فَلَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (أَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ) بِالْمَالِ (فَيَتَفَرَّدُ بِالرَّدِّ فَافْتَرَقَا) وَنَاقَضَهُ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ: يَعْنِي مِنْ مَسْأَلَةِ التَّجَاحُدِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِالْفَسْخِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ صَعْبٌ انْتَهَى، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ مَاتَ وَلَا بَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْجَارِيَةِ فَالْوَجْهُ مَا قَدَّمَهُ أَوَّلًا.
وَهَذِهِ فُرُوعٌ ذَكَرَهَا فِي النِّهَايَةِ:
لَوْ صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ لَا يَرْتَدُّ.
لَوْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا وَقَبِلَ ثُمَّ رَدَّهُ فَرَدُّهُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ قَبِلَ الْمَدْيُونُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهَبْت لَك رَقَبَتَك فَرَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ، هَذَا كُلُّهُ فِي رَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ إقْرَارَ الْمُقِرِّ.
فَأَمَّا لَوْ رَدَّ الْمُقِرُّ إقْرَارَ نَفْسِهِ كَأَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْآخَرِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ أَوْ قَالَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ لَمْ أَقْبِضْ أَوْ قَالَ هَذَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ هُوَ لِي وَأَرَادَ تَحْلِيفَ فُلَانٍ أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَالَ كُنْت كَاذِبًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الدَّائِنِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْسَ لِي عَلَى فُلَانٍ شَيْءٌ ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ لَا يَحْلِفُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ يَحْلِفُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا تَحَرُّزًا مِنْ امْتِنَاعِ الْقَابِضِ عَنْ الْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فَيَجِبَ أَنْ يُرَاعِيَ الْعَادَةَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَقَالَ: كَانَ تَلْجِئَةً وَطَلَبَ يَمِينَ الْآخَرِ حَلَفَ عَلَيْهِ، كَذَا هَذَا.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الرَّأْيُ فِي التَّحْلِيفِ إلَى الْقَاضِي يُرِيدُ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي خُصُوصِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حِينَ أَقَرَّ وَأَشْهَدَ يَحْلِفُ لَهُ خَصْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ فِيهِ ذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ بِالتَّفَرُّسِ فِي الْأَخْصَامِ وَاَللَّهُ الْهَادِي.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا.
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ (وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ) وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا) مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَمَا تَصِحُّ بِهِ الدَّعْوَى (فَقَالَ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ بَيِّنَةً عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَكَذَلِكَ) لَوْ أَقَامَهَا (عَلَى الْإِبْرَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ لَا تُقْبَلُ) وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَ الْوُجُوبَ) حَيْثُ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ، فَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ نَاقَضَ (وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى دَفْعًا لِلشَّغَبِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقٌّ (وَيَبْرَأُ مِنْهُ وَ) لِذَا (يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ، وَ) أَيْضًا (قَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَقْضِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ) لِأَنَّهُ نَفَى فِي الْحَالِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّفْيَ مُطْلَقًا لِجَوَازِ الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ اللُّزُومِ فَيَنْتَفِي فِي الْحَالِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي قَبُولَ الْبَيِّنَةِ إذَا احْتَاجَ إلَى التَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى التَّوْفِيقِ.
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ شَرَطَ مُحَمَّدٌ دَعْوَى التَّوْفِيقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَقِيلَ يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى فِي الْكُلِّ وَيُحْمَلُ مَا سَكَتَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِي الْأَقْضِيَةِ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُوَفِّقَ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِإِنْشَائِهَا وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي مَا يُوَفِّقُ بِهِ الْمُدَّعِي.
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: كَانَ وَالِدِي يُفْتِي بِأَنَّ التَّوْفِيقَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّوْفِيقُ كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ حُجَجُ الشَّرْعِ.
وَالتَّوَسُّطُ فِي هَذَا أَنَّ وَجْهَ التَّوْفِيقِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مُتَبَادِرًا يَجِبُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِلَا تَوْفِيقِ الْمُدَّعِي كَقولهِ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ ثُمَّ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ وَنَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَكَلِّفًا لَا يَعْتَبِرُهُ الْقَاضِي وَاقِعًا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُدَّعِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَذَلِكَ مِثْلُ قولهِ وَهَبَهَا لِي ثُمَّ أَنْكَرَهَا فَاشْتَرَيْتهَا، وَكَذَا فِيمَا يَأْتِي فِي الْجَارِيَةِ لَمْ أَبِعْهَا لَهُ وَلَكِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً كَاذِبَةً بِالْبَيْعِ فَسَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي مِنْ الْعُيُوبِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَلْقِينٌ لِلْحُجَّةِ.
هَذَا (فَلَوْ) زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَـ (قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك) أَوْ قَالَ وَلَا رَأَيْتُك أَوْ قَالَ وَلَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُخَالَطَةٌ وَلَا أَخْذٌ وَلَا إعْطَاءٌ أَوْ مَا اجْتَمَعْت مَعَك فِي مَكَان وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ (لَمْ تُقْبَلْ) لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ (وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ) عَنْ أَصْحَابِنَا (أَنَّهَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ) فَعَلَى هَذَا قَالُوا يَجِبُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَإِلَّا قُبِلَتْ.
وَفِي الشَّافِي: لَوْ قَالَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ ادَّعَى الدَّفْعَ لَمْ يُسْمَعْ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقول لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا وَقَدْ دَفَعْته، أَمَّا لَوْ ادَّعَى إقْرَارَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ أَوْ الْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ وَهُنَا لَمْ يَجْمَعْ، وَلِهَذَا لَوْ صَدَّقَهُ الْمُدَّعِي عِيَانًا لَا يَكُونُ مُنَاقِضًا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ.
وَقِيلَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَحَقَّقُ بِلَا مَعْرِفَةٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَةً فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَائِهِ) إيَّاهَا مِنْهُ فَقَبَضَهَا (فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً) أَوْ نَحْوَهُ مِنْ عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ رَدَّهَا (فَأَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي التَّوْفِيقَ فِي الدَّيْنِ.
وَقولهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ هُنَا أَنْ يَقول لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَيَّ الْبَيْعَ سَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي مِنْ الْعَيْبِ فَأَبْرَأَنِي.
قَالَ شَارِحٌ: وَلِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَجُحُودُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَذُكِرَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيقِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَكِيلًا عَنْ الْمَالِكِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ قولهُ لِلْمَالِكِ مَا بِعْتهَا لَك قَطُّ صِدْقًا فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ لَيْسَ مُنَاقِضًا، وَالْوَجْهُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى الْوَكِيلِ نَفْسِهِ لَا يُوَفِّقُ بِذَلِكَ.
وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ: أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الشِّرَاءِ وَذُو الْيَدِ يُنْكِرُ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُنْكِرُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ رَدَّ الْبَيْعَ قُبِلَتْ، وَلَا يُبْطِلُ إنْكَارُهُ الْبَيْعَ بَيِّنَتَهُ لِأَنَّهُ يَقول أَخَذَهَا مِنِّي بِبَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ ثُمَّ اسْتَقَلْته فَأَقَالَنِي وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَائِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ وَجْهَيْ التَّوْفِيقِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ يَدْفَعُ هَذَا.

متن الهداية:
قَالَ: (ذِكْرُ حَقٍّ كُتِبَ فِي أَسْفَلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ كُتِبَ فِي شِرَاءٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْخَلَاصِ وَعَلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ، وَقولهُمَا اسْتِحْسَانٌ ذَكَرَهُ فِي الْإِقْرَارِ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ وَلَهُ أَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةِ مِثْلِ قولهِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلَوْ تَرَكَ فُرْجَةً قَالُوا: لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (ذِكْرُ حَقٍّ) يَعْنِي صَكًّا فِي إقْرَارٍ بِدَيْنٍ (قَالَ فِي آخِرِهِ: وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ) يَعْنِي مَنْ أَخْرَجَهُ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ، ثُمَّ كَتَبَ (إنْ شَاءَ اللَّهُ) مُتَّصِلًا بِهَذِهِ الْكِتَابَةِ أَوْ صَكَّ شِرَاءٍ كَتَبَ فِيهِ وَمَا أَدْرَكَ فُلَانًا الْمُشْتَرِي مِنْ الدَّرَكِ فَعَلَى فُلَانٍ خُلَاصَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ (فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْطُلُ الصَّكُّ كُلُّهُ) الدَّيْنُ فِي الْأَوَّلِ وَالشِّرَاءُ فِي هَذَا وَالْخَلَاصُ (وَعِنْدَهُمَا كُلٌّ مِنْ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءِ صَحِيحٌ، وَقولهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ) وَهُوَ وَكَالَةُ مَنْ قَامَ بِهِ وَضَمَانُ الدَّرَكِ خَاصَّةً (وَقولهُمَا اسْتِحْسَانٌ لَهُ أَنَّ الْكُلَّ بِوَاسِطَةِ الْعَطْفِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ) اتَّصَلَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ (فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ) لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ قول الْقَائِلِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ يُبْطِلُ الْكُلَّ فَلَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا يَلْزَمُ نَذْرٌ (وَلَهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ) فَقَامَ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ كَتْبِ الصَّكِّ دَلَالَةً عَلَى قَصْرِ انْصِرَافِهِ إلَى الْأَخِيرِ، هَذَا هُوَ الْعَادَةُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَادِثُ لَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُكْتَبُ لِلْإِبْطَالِ لِغَرَضٍ قَدْ يَتَّفِقُ.
وَظَاهِرُ الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ أُجْرِيَ بِالِاتِّفَاقِ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ انْصِرَافُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً بِسَبَبِ الْعَطْفِ، وَهُمَا سَلَّمَا ذَلِكَ لَوْلَا عُرُوضُ فَهْمِ الْغَرَضِ مِنْ كُتُبِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ وُجُودُ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِبَعْضِهَا اسْتِثْنَاءٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْجُمَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعَطْفِ، فَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ يُصَيِّرُهَا كَوَاحِدٍ لَزِمَ فِي كُلِّ اسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِجُمَلٍ مَنْسُوقٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُلِّ وَيَسْتَحِيلَ وُجُودُ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ الْوَجْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ شَرْطٌ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَنْسُوقَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُلِّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ وَلَمْ تَطْلُقْ وَلَمْ يَلْزَمْ النَّذْرُ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَمَشَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى حُكْمِهِ، وَهُمَا أَخْرَجَا صُوَرَ كُتُبِ الصَّكِّ مِنْ عُمُومِهِ بِعَارِضٍ اقْتَضَى تَخْصِيصَ الصَّكِّ مِنْ عُمُومِ حُكْمِ الشَّرْطِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِذَا كَانَ قولهُمَا اسْتِحْسَانًا رَاجِحًا عَلَى قولهِ.
هَذَا إذَا كَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَكْتُوبًا مُتَّصِلًا بِالْكِتَابَةِ، فَلَوْ فَصَلَ بِبَيَاضٍ وَهُوَ الْفُرْجَةُ صَارَ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ فَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا اتِّفَاقًا.
وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَبْطُلْ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُهُ صِحَّةُ الْوَكَالَةِ لِلْمَجْهُولِ بِالْخُصُومَةِ فِي قولهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ، وَتَوْكِيلُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْكِتَابَةِ إثْبَاتُ رِضَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَوْكِيلِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْمُدَّعِي، فَلَا يَمْتَنِعُ الْمَدْيُونُ عَنْ سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ.
وَدَفَعَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ عَلَى قولهِ لِأَنَّ بِهَذَا يَثْبُتُ الرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ، وَالرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ بَاطِلٌ فَلَا يُفِيدُ عَلَى قولهِ أَيْضًا.
وَقِيلَ بَلْ فَائِدَتُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ لَا يُصَحِّحُ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ بِلَا رِضَا الْخَصْمِ إلَّا إذَا وُجِدَ الرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ مُطْلَقًا.